رثاء الراحلين.. فقيد الإعلام والتعليم خالد عبدالمعين

الأحد ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٣ الساعة ٥:٢٩ مساءً
رثاء الراحلين.. فقيد الإعلام والتعليم خالد عبدالمعين
بقلم: جابر بن عبدالله الأسمري

جال في ذاكرتي مشهد موكب المغادرين من هذه الحياة، واستفزني حزنًا بين زوايا العتمة وخواطر البوح، وتباريح الخاطر المحزون وعرجت بي الذاكرة على تتابع رحيل الأحباب لا شيء يجلب السلوى سوى اليقين “إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى” وإننا راضون بقضاء الله وقدره”.

لقد أصبحت أوراق الأشجار تتساقط في كل الفصول؛ وذلك على غير عادة، فقد عهدناها لا تسقط إلا في فصل الخريف فقط، ولكنها حكمة الله وأقداره ولا رادَّ لحكمه وقدره.

للموت مهابة ولقوافل الراحلين وقار، أيها الراحلون، إن القلب لمحزون، وإن العين لتدمع، وإن لنا من بعدكم أيها الراحلون انتظارًا في محطات الحياة، قد يطول زمنها وقد يقصر، وكل ذلك بتدبير الله وحكمته، وقد تصفو مياهها، وقد تتكدر، وقد تُضحك، وقد تُبكي حتى ذلك اليوم الموعود، “ولكلّ أمةٍ أجلٌ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون”، ولله الحمد والشكر على كل متغيراتها، وإذا حان ذلك الأجل نسأل الله حسن الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، وأن يختم لنا عند الممات بعمل صالح يرضيه عنا، هذا اليوم فقدنا النبيل خالد بن عبدالمعين الأسمري، هكذا النبلاء يتساقطون كورق أشجار الخريف حين تسقطها زمجرة الريح، فتعري الأغصان، نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته، ويسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، ويثبته عند السؤال، وأن يلهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان .

للموت مهابة أيها الراحلون، كما له مرارة وألم وشعور بالغ بالفقد، نحن وحدنا من تمتد به الحياة لنبكيكم، ونذرف الدمع في وداعكم، ونشيعهم إلى رب كريم رحيم، ونحن لا نكاد نصدق أننا لن نراكم بعد اليوم.

لماذا يثير الموت لدينا هذه الرهبة الكبرى؟

لماذا نبكي مَن رحل وقد امتدت بهم أقدارهم لمراحل حياة أخرى؟

لماذا نبكيهم ونحن سائرون إلى ما ساروا إليه شئنا أم أبينا؟

إننا في الحقيقة لا نبكيهم لأنهم رحلوا، بل نبكي أنفسنا على الأوقات والأزمنة التي فرطنا فيها للتواصل وقضاء أجمل الأوقات وأسعدها معهم، شغلتنا الدنيا عن بعضنَا البعض حتى أصبحنا لا نلتقي إلا في المقابر نودع بَعضنَا البعض، نبكيهم لأنهم تركونا نجتر مرارة فراقهم حزنًا وألمًا وحسرة لفقدنا لهم، وربما نبكي الأيام الجميلة، والذكريات المليئة بالمواقف النبيلة، نبكيهم لأنهم كانوا جزءًا من حياتنا أو بقية من ذكرياتنا، في ذلك الزمن المبهج الذي يسكنه الفرح، لا نبكيهم لأنهم رحلوا فربما تكون آخرتهم أكثر راحة وسعادة من دنياهم ونرجو أن يكونوا كذلك، لا نبكيهم لأنهم لن يشعروا ببكائنا، ولن يستعيدوا شيئًا مما مضى، ولن يكون بمقدورهم أن يصنعوا شيئًا للعودة لنا، نحن نبكي اللحظة السعيدة، والزمن الجميل الدافئ بوجودهم وقربهم، نحن إذًا من يجزع لأن الراحلين انطفأت شموعهم في حياتنا، ولأن رحيلهم إعلان كبير بأن قطار العمر ماضٍ، والأيام دول بين الناس “وتلك الأيام نداولها بين الناس”، والقدر معلوم، والموت محتوم، حقيقة أن للموت مهابة، ولمواكب الرجلين جلالًا، أيها الباقون، أحسنوا لما بقي من أعماركم.

سألتني نفسي هل أخذتك الذاكرة عنوة لمكامن الحزن ولوعة الفراق؟

أجبتها إنها النفس اللوامة حتى تكاد أن تكون خصمي، وأنا خصمها، لا تدعني إلا إذا ترقرق الدمع في عيني، أو ارتبك الأمر في فكري، أو تلعثمت الكلمات، أو انصرفت عن عالمي وكأني في ساعة المآل ولحظة النهايات التي لا ريب فيها ولا شك.

لقد نال مني هاجس الرحيل حتى رقّت له كل مشاعري، وتداعت عبراتها، وأنا أكتب هذا الرثاء في الراحل إلى رحمة ربه وعفوه أبي فهد، الذي أعطى جُلّ وقته وجهده للعمل التربوي، والإعلامي حين طلب مني المشاركة في كتابته مقالات لصحيفة بللسمر، فكان نعم الزميل، ونعم الأخ والصديق، لمست منه التفاني في خدمة قبيلته، والتعريف بها عبر الحرف والكلمة.

لم يكن يتسلط عليّ هذا الحزن ويتملكني أو يربك كلماتي أو ينال من صفاء لحظتي إلا وكان ناقوسًا يستثير تأملي في هذه الحياة الدنيا الفانية، ويروض النفس على القبول بالقدر خيره وشره، والإيمان الكامل بمقتضى أن رضانا بالموت خير من الجزع منه، والإيمان بحتميته خير من التوهم به أو تأجيل قدره المحتوم.

فإن كنت أبها الإنسان على قدر من الجهل بتحولات الحياة، صعودًا وانحدارًا وشدة ورخاءً، يصرفك عما في الصعود من مشقات وما في الانحدار من حسرات حينها تدرك أنك وقود تلك المتغيرات، وأنه لا يوجد فيها ما يدعو لإرهاق النفس والجسد بتداعياتها ومآلاتها، ولكن اعمل لها ولآخرتك كأنك بين حالتين، الخلود فيها الأبدي، والرحيل منها مسرعًا، ذلك الرحيل الأزلي المحتوم.

وما تأخذه عينك من صور ومناظر بهجتها ما هي إلا زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات، خيرٌ عند ربك ثوابًا وخيرٌ أملًا.

ينبغي أن نتوقف هنا قليلًا، ونروض أنفسنا على تقبل متغيرات الحياة وأقدارها، وعلى الاطمئنان إلى ما يجعلنا أكثر تقبلًا للحزن، وعدم الجزع، وعلى السكون إلى ما يقلقنا منها والركون إلى اليقين الإيماني والرضا به، وهذا لا ينفي حرص الإنسان على الحياة وشغفه بها، وكل ما فيها يُعدُّ لما بعدها، فمن حصافة الرأي أن نتهيأ لها، ومواجهة الحقائق أولى على المرء من تجاهلها والمكابرة فيها.

على مقولة الرافعي: “إني لم أسأم الحياة ولم أزهد فيها ولكني أتزود منها وأضعها مطية أسرج لجامها أملًا فيما هو أبقى منها، وكل ذلك بقدر ما تمكني نفسي وعقلي ويقيني أنها إلى زوال، فيتسنى لي أن أفكر بعقلانية في مقاربة ومواربة بين الماضي والحاضر، وأن أتأمل مسافة المستقبل وما أسرع تقلباتها ودلوفها إلى النهاية”.

إن هذا التفكير العقلاني ربما يجيب عن تلك النفس القلقة، المرتبكة الوجلة، التي ترى الجزع على تسارع وتقادم العمر، وانصراف العقل والقلب عن التفكير بالنهايات قد يُفضي إلى التسويف وطول الأمل الذي يبدأ من لحظة بلوغ المنحى الآخر من العمر، وإني لا أشك لحظة أن للموت رحمة بالأحياء من ضنك الحياة قبل أن يكون بردًا وسلامًا على الراحلين.

فمن رحماته أنه صياغة للتفكير في الأولويات وترويض النفوس التي جُبلت على القلق من حتمية النهايات، ويستعيد نفوسًا أخرى لمواطن البذل والعطاء والتسامح لأنها مدركة أنه حق لا ريب فيه، وهي النفوس التي جُبلت على الخير والمودة والوفاء.

تعازينا ومواساتنا لأسرته ولمحبيه وللأسرة الإعلامية في بللسمر ولنا جميعًا “إنا لله وإنا إليه راجعون”.

تعليقك على الخبر
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني | الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق
الاسم
البريد الإلكتروني