رحلة الحج.. من الإبل إلى الذكاء الاصطناعي

السبت ١٥ يونيو ٢٠٢٤ الساعة ١١:٤٣ صباحاً
رحلة الحج.. من الإبل إلى الذكاء الاصطناعي
بقلم : حسن مبشر

عندما تتأمل في رحلة الحج، وتستعيد القصص التي تحكي تاريخ هذه الرحلة، تلمس التطور والجهود التي تبذلها المملكة العربية السعودية لخدمة ضيوف الرحمن، وتيسير أداء مناسكهم في تلك الرحلة الإيمانية، هذه الرحلة التي بدأت من على ظهور الجمال حتى وصلت إلى أقصى درجات التطور والتقدم، في ظل الرعاية الكريمة التي تُوليها المملكة لهذه الرحلة الإيمانية الكبيرة.

وقديمًا كانت الإبل هي فرس الرهان في هذه الرحلة، فمن على ظهورها انطلقت الوفود إلى البيت العتيق، ابتداء من رحلة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، الذي حج في السنة العاشرة على ناقته متنقلًا بها من المدينة إلى المشاعر المقدسة، وهناك من أصحابه- رضي الله عنهم- من سار معه على الأقدام في هذه الرحلة.

وتباعًا توالت هذه الرحلات على مدى العصور، عبر قوافل كانت وسيلتها نحو مكة المكرمة هي ظهور الإبل، وبعض هذه الرحلات كانت تستغرق أكثر من (16) شهرًا، وكان قديمًا للإبل هيئة يُطلق عليها هيئة المخرجين، تتولى مسؤولية إحضار الجمال والجمالة وتتبعهم جماعة أخرى تعرف بالمقومين، وهم من يتولون تقدير حمولة الجمل من عفش الحجاج، وركوبهم.

وتقدر أجرة الجمل في كل عام ببداية موسم الحج، حيث إن الجمل الذي يحمل الحاج له أجر، والجمل الذي لا يحمل إلا عفش الحاج فقط له أجر، وهذه هي الصورة الأولية لنقل الحجاج عبر الجمال حتى وصلنا اليوم إلى الرحلة الأكثر أمنًا وراحة بفضل التقدم التكنولوجي الذي وصل إليه العالم، وبفضل ما توفره بلاد الحرمين وقادتها ومنسوبوها بكافة قطاعاتها من خدمات جليلة لتصبح رحلة الحج الرحلة الأجمل والتاريخ الذي لا يُنسى لكل قاصد بيت الله الحرام، بعد أن كانت هذه الرحلة محفوفة بالمخاطر وحياة الحجاج مهددة في كل وقت.

فمنذ سقوط الدولة العباسية وحتى توحيد الملك عبدالعزيز لهذه البلاد، كان المغادر للحج مفقودًا، والعائد مولودًا؛ بسبب ما يعترض هذه الرحلة من عقبات وتهديدات، إلى درجة أن بعض علماء المغرب وشنقيط كانوا يفتون بإسقاط فريضة الحج بسبب الصعوبة والخطورة التي كانت تحيط بهذه الرحلة، ومع بداية التطور، بدأ الحجاج يستخدمون إلى جانب الإبل، باصات النقل القديمة، مرورًا بالسفن والبواخر، وعند توحيد المملكة أصبح السفر إلى مكة عن طريق السيارات التي بدورها قلصت الوقت إلى خمسة أيام أو أقل؛ نظرًا لوعورة الطريق قبل أن تُشيّد هذه البلاد الطرق المعبدة بــ”الأسفلت” والتي قلّصت وسهّلت مدة الوصول. ناهيك عما وصلنا له داخل المشاعر المقدسة من نوعية في حجم مشروعات التطوير، والتوسعة، وتعدد الخدمات، وسخاء الإنفاق، والخطط التنظيمية المتكاملة، التي يتم توفير كل الإمكانات البشرية والمادية لإنجاحها.

ولعلنا نقف بفخر اليوم أمام (مبادرة طريق مكة) إحدى مبادرات وزارة الداخلية، ضمن برنامج خدمة ضيوف الرحمن، وهو أحد برامج رؤية السعودية (2030)، هذه المبادرة التي حملت توجهًا رقميًّا وتقنيًّا معزّزًا بالذكاء الاصطناعي، لتيسير الخدمات لضيوف الرحمن من مختلف دول العالم إلى البقاع المقدسة لأداء مناسك الحج، ومن هذا المنطلق تستخدم مبادرة مكة العديد من التقنيات الحديثة والحلول الرقمية لتسهيل رحلة الحاج، من خلال توظيف التكنولوجيا، وتطوير الخوارزميات والتقنيات الحديثة في التيسير على قاصدي الحرمين الشريفين بشكل غير مسبوق، فاختفت مظاهر العناء والمشقّة، حتى أصبح الحج منسكًا مُيسّرًا يجد فيه الحجاج الخدمات بكل سهولة واطمئنان؛ من خلال تمكينهم من استكمال إجراءات دخولهم إلى المملكة من خلال الصالات التي خصصتها المبادرة في مطارات بلدانهم، حيث يتم إصدار التأشيرة الإلكترونية للحاج وهو في بلده، ويتم أخذ الخصائص الحيوية له، مرورًا بإنهاء إجراءات الجوازات في مطار بلد المغادرة بعد التحقق من توفر الاشتراطات الصحية، كما يتم ترميز وفرز الأمتعة وفق ترتيبات النقل والسكن في المملكة، وعند وصول الحجاج ينتقلون مباشرة إلى حافلات لإيصالهم إلى مقار إقامتهم في مكة المكرمة والمدينة المنورة بمسارات مخصصة، في حين تتولى الجهات الخدمية إيصال أمتعتهم إلى مساكنهم، بعدها يتقلد كل حاج بطاقة نسك الذكية التي تُقدّم العديد من الخدمات الهامة لضيوف الرحمن.

كما ننوه إلى توسع المملكة العربية السعودية في استخدام تقنيات الروبوتات الذكية لخدمة حجاج بيت الله الحرام، فهناك روبوت “الإرشاد” وهو إبداع مُميز يُمثّل الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، ويعمل هذا الروبوت بتقنيات تعتمد على الذكاء الاصطناعي، ومهمته إصدار فتاوى واستشارات إسلامية موثوقة، مع شاشة تعمل باللمس والتواصل بأكثر من (11) لغة، كما استخدمت المملكة ببراعة تقنيات الذكاء الاصطناعي لتزويد الحجاج بزجاجات مياه زمزم بواسطة عامل توصيل روبوتي، يتمتع هذا الروبوت بالقدرة على العمل بشكل مستقل لمدة (5- 8) ساعات، ويتواجد روبوت مخصص لتعقيم المسجد الحرام، يغطي هذا الابتكار الروبوتي الفريد من نوعه مساحات شاسعة داخل المسجد ومختلف مرافقه، مما يوفر عملية تعقيم فعالة وشاملة دون الحاجة إلى أي تدخل بشري.

وفي موسم حج هذا العام (2024)، وسّعت الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي مبادراتها الرقمية لتوفير تجربة سلسلة متقدمة تقنيًّا للحجاج وزوار الحرمين الشريفين حيث تم إدخال (50) خدمة إلكترونية متنوعة و(10) تطبيقات و(4) مواقع إلكترونية، وتساهم هذه المنصات الرقمية في صيانة وتشغيل وتطوير الأنظمة والخدمات الإلكترونية.

أخيرًا، وبعد حديثنا عن رحلة الحج التي بدأت بالإبل وصولًا إلى الذكاء الاصطناعي، بقي أن نقول الحمد لله الذي سخر لهذه البقاع المقدسة، رجلًا وحّدها وجعلها ضمن حدود هذه الدولة العظيمة، وسار على نهجه قادة هذه البلاد ورجالاتها، فلم تبخل السعودية يومًا بأي جهد أو مال أو كوادر بشرية لخدمة أكثر من مليوني مسلم يأتون سنويًّا في أيام معدودة، وتُحيطهم الروحانية والطمأنينة والأمن من كل جانب، ويغادرون بدموع مُنهمرة ممتنين فيها لكل الرعاية الفائقة، والمنظومة الأمنية المتطورة، وكرم الضيافة التي لقوها في مملكة الإنسانية.

تعليقك على الخبر
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني | الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق
الاسم
البريد الإلكتروني