النعيم

الأحد ٢٧ أكتوبر ٢٠١٣ الساعة ٣:١٦ صباحاً
النعيم

(النعيم) .. آية كم مرة قرأناها ، محفورة في عقول الصغار والكبار ، ترددت على مسامعنا ، ونوه بها الخطباء والوعاظ .
هي قديمة النزول نعم ، قصيرة العبارة ، نعم ، لكن معناها يتجدد بتجدد الحياة ، ويبدد بإشراقته ظلام العُجب ، ويكشف سوءة الاغترار ، كما تبدد أشعة الشمس ظلام الليل البهيم ، فتضيء الدنيا بنورها ، وينطلق الناس معها يبتغون من فضل الله ورزقه ، لينغمسوا من جديد مع يوم جديد في النعيم ، النعيم المتنوع الذي جاءت الآية تنوه به ، وتشير إليه ، وتعلن السؤال عنه في خاتمة سورة قصيرة أيضاً ، لكنها تقشع عن القلب غفلته ، وتعيد إليه انتباهته .
تبدأ السورة بقوله { ألهاكم التكاثر } وتختم بآيتنا التي نقف معها هنيهة { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } .
والنعيم اسم لما يلذ الإنسان مما ليس ملازماً له ، فالصحة ، وسلامة الحواس ، وسلامة الإدراك ، والنوم ، واليقظة ليست من النعيم ! هكذا قال ابن عاشور ، رحمه الله ، وعجبت من قوله هذا أشد العجب . فإن المرء لا يجد لذة الطعام بغير صحة ، ولا يجد لذة النوم مع الهم وغلبة الدين ، وقهر الرجال . وعلى هذا فقس .
وقد ذكر أهل التفسير قول ابن عباس في النعيم أنه صحة الأبدان ، والأسماع والأبصار . وقال غيره : النعيم هو العافية . ونص ابن جرير على أن الله تعالى لم يخصص نعيما دون آخر ، فالآية عامة في كل نعيم .
والعيش مع القرآن من أجلّ أنواع النعيم في الدنيا ، تتلذذ به أسماعنا ، وتترنم به ألسنتنا ، وتتدبره قلوبنا ، وتتفكر فيه عقولنا .
لم يذق هذا النعيم من أعرض عنه وانشغل بالأهل والمال ، ينفر من سماع الترتيل ، أو قراءة آيات التنزيل .
ومن حُرم هذا النعيم غدت أيامه جحيماً ينتظر زواله ، وحملاً ثقيلاً ينتظر التخلص منه ، فلا قيمة لها في الحقيقة ، لأن الضنك سيحيط به من كل جانب ، لهذا تجد المحروم من هذا النعيم ضيق الصدر مهموم النفس ، مهما بدا له أو لمن يراه من آثار السعادة المزيفة التي تغطي حياته { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } . ومن عاش هذا النعيم غمر حياته الفرح وكستها الرحمة فانشرح منه الصدر واطمأن القلب { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ، هو خير مما تجمعون } .
وإن الربط بين أول السورة وآخرها أن التكاثر الذي شغل العالم صالحَه وطالحَه ، تكاثر في الأموال والأولاد وفي الأتباع ليس بمغن عن المرء شيئا إذا لم يحسن العمل فيه ، وبه ، ويؤدي شكره ويقوم بما يقتضيه . فكل ذلك نعيم سيسأل عنه المرء إما سؤال توبيخ أو سؤال تقرير ، وهذا نعيم مادي زائل .
وما نعيم العيش مع القرآن وحلاوته إلا مقدمة للنعيم الأعظم بدخول جنات النعيم ، التي وصف نعيمها بالمقيم ، فلا يبغي أهلها عنها حولا ، وأعظم نعيمها رؤية وجه الله جل جلاله ، والتمتع بالمزيد .
فيا بشرى أهل القرآن ، أهل الله وخاصته ، بكلام ربهم ، في الدنيا ، وفي البرزخ ، وفي النشر ، وعند الحساب .
فدع عنك الدنيا وأهلها ، واقتد بالأنبياء والصالحين ، وتعرف على خطاهم لتتلقي بهم ، ولن تعرف حالهم ، وتستبين هداهم إلا بقراءة آي الكتاب الحكيم .
ولا عزاء للغافل ، إلا أن ينتبه ، ويستدرك ما فات ، في حين ما زالت الفرصة في الحياة يمكن تعويضها ، وكم من مسوف فاتته حياته كلها وهو يمني النفس بتوبة ورجوع ، منخدعا بنعيم زائف في اللهو والسمر ، يخوض مع الخائضين ، حتى يأتيه اليقين . فما تنفعه شفاعة الشافعين . والقرآن شافع للتالين ، يرفع أهله في الدنيا ويوم الدين ، فيا لخسارة المعرضين .
وإن من النعيم العاجل لأهل القرآن أن يختارهم الله لنصرة دينه والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه ، وهذا النعيم لا يشعر به المجرمون ، ويبعد عن أذهان المترفين ، ويذوق حلاوته المؤمنون بوعد الله ، المنتظرون نصره ، الذين يشعرون بمعيته ، ويترقبون فرجه ، ويسعدون بالنيل من أعدائه ، يرون الواقع والمستقبل في ثنايا الآيات تبث فيهم الأمل ، وتبشرهم بالنصر والتمكين ، والعز والرفعة ، وتدلهم على الطريق وتحثهم على الثبات عليه ، والتمسك بحبله حتى يصلوا إلى النهاية مستعينين بالله ، متقين ، صابرين .
ويكفي المحروم من هذا أن يعيش رهاب الإسلام ، والخوف من زوال النعمة ، وأن يكون في صف الشيطان يؤزه إلى الإجرام والقتل والتدمير ، يمنيه بإطفاء نور الله ، ويجعله في مصاف أبي جهل وأبي لهب ، فينسيه أين ذهب الأعداء الذين تظاهروا على شمعة الإسلام ليطفئوها ، فكانوا حديثا يتسامر به المسلمون ، وبقي الدين يوقد شموع هدايته في كل زمان ومكان ، يشهّر بالوليد بن المغيرة والعاص بن وائل ، ويذكر سخرية قوم نوح وبطش عاد ، وتمرد ثمود ، وظلم النمرود وطغيان فرعون ، وهو يترنم بقوله { فأتبعنا بعضهم بعضا ، وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون } . وما أشبه الليلة بالبارحة ، والوعد الحق الذي لم يتخلف ولن يتخلف { ولينصرن الله من ينصره } { إن تنصروا الله ينصركم } .
فصبرا أهل القرآن صبراً ، فإن نعيم الجهاد والصبر على الدين لم يذق طعمه أمية ، وتلذذ به بلال ، فأنتم أولى الناس يخاطب بهذه الآية : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ، ألا إن نصر الله قريب } .

تعليقك على الخبر
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني | الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق
الاسم
البريد الإلكتروني

  • أبو يارا

    اسأل الله النعيم الدائم في الدنياء والاخره ،،

  • الفارس

    جزاك الله خير يا شيخ

  • المازنى

    الى مشرف المواطن لاتصادرون اراء القراء الفضاء الكترونى واسع ان مصداقيتكم وحريه ابداء الراي مقومات نجاحكم عندما يكون الرقيب متسلطا ويصادرحريه الاارء دليل على الفشل الذريع 

  • عاشق ترابك ياوطن

    طيب الي يسمع اغاني ياشيخنا الفاضل وش نصيحتك له ….؟

إقرأ المزيد