{ الشيخان }

الأحد ١ ديسمبر ٢٠١٣ الساعة ١:٤٥ صباحاً
{ الشيخان }

جاء ديننا الحنيف ليتعامل مع أنفس بشرية على طبيعتها ، يقوّم أخلاقها ويتمّمها ، ليس فيه كهنوتية ولا رهبانية ، وليس فيه تكلف يخرج المتبع له من طبيعته ، أو يجعله آلة لا إحساس فيها . ولم يأت أيضا ليرفع مقام أتباعه إلى الملائكية ، بله أن يجعلهم آلهة من دون الله يعبدون ، ويعلمون الغيب ، أو ينفعون أو يضرون .

بهذه الواقعية البشرية جاء الإسلام ، وبها عاش ، وبها انتشر في أصقاع المعمورة ، فلامست بشاشة الإيمان به القلوب ، وتعامل أتباعه معه بكل ود ويسر وبشاشة .

امتلأ قلبي بهذا الشعور وأنا أقرأ قصة الشيخين في الصحيح ، والشيخان هما أفضل الأمة بعد نبيها ، صلى الله عليه وآله وسلم ، ورضي الله عنهما . وقصتهما كما جاءت في البخاري : كانت بين أبي بكرٍ وعُمَرَ محاورةٌ ، فأغضَب أبو بكرٍ عُمَرَ ، فانصَرَف عنه عُمَرُ مُغضبًا ، فاتَّبَعه أبو بكرٍ يَسأَلُه أن يستغفِرَ له فلم يَفعَلْ ، حتى أغلَقَ بابَه في وجهِه ، فأقبَل أبو بكرٍ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم . فقال أبو الدَّرداءِ : ونحن عِندَه ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( أما صاحبُكم هذا فقد غامَر ) . قال : وندِم عُمَرُ على ما كان منه ، فأقبَل حتى سلَّم وجلَس إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، وقصَّ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الخبرَ . قال أبو الدَّرداءِ : وغضِب رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، وجعَل أبو بكرٍ يقولُ : واللهِ يا رسولَ اللهِ ، لأنا كنتُ أظلَمُ . فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( هل أنتم تارِكونَ لي صاحِبي ، هل أنتم تارِكونَ لي صاحِبي ، إني قلتُ : يا أيُّها الناسُ ، إني رسولُ اللهِ إليكم جميعًا ، فقلتُم : كذَبتَ ، وقال أبو بكرٍ : صدَقتَ ) . وفي رواية أخرى يقول أبو الدرداء رضي الله عنه : كنتُ جالسًا عِندَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ أقبَلَ أبو بكرٍ آخِذًا بطَرَفِ ثوبِه، حتى أبدَى عن رُكبتِه، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( أما صاحبُكم فقد غامَر ) . فسلَّم وقال : إني كان بيني وبين ابنِ الخطابِ شيءٌ، فأسرَعتُ إليه ثم ندِمْتُ، فسألتُه أن يغفِرَ لي فأبَى عليَّ، فأقبَلْتُ إليك، فقال : ( يغفِرُ اللهُ لك يا أبا بكرٍ ) . ثلاثًا، ثم إن عُمَرَ ندِمَ فأتَى منزِلَ أبي بكرٍ، فسَأل : أثَمَّ أبو بكرٍ، فقالوا : لا، فأتَى إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسلم، فجعَل وجهُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتمَعَّرُ، حتى أشفَقَ أبو بكرٍ، فجَثا على رُكبتَيه فقال : يا رسولَ اللهِ، واللهِ أنا كنتُ أظلَمَ، مرتين، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( إن اللهَ بعثَني إليكم فقُلْتُم كذبْتَ، وقال أبو بكرٍ صدَق . وواساني بنفسِه ومالِه، فهل أنتم تارِكوا لي صاحِبي ) . مرتين، فما أوذِيَ بعدَها .

إن في هذه القصة لبيانا واضحا عن بشرية الصحب الكرام ، وهم أفضل الناس ، وأكثرهم تقى وورعا ، وهم الذين ضربوا أروع الأمثلة في الإخاء والإيثار ، وقل ما شئت في جيل فريد تميز في كل شيء ، إيمانا وعملا .

لكنهم مع كل ذلك التميز بشر ، يعتريهم ما يعتري البشر ، يغصبون ويتخاصمون وربما وقع من أحدهم ظلم أو وقع في خطيئة ، لكنهم كانوا في كل ذلك ومعه يستحضرون هذه الرابطة العظيمة التي ألف الله بها القلوب ، وجمع بها الشتات ، ورص بها الصف ، رابط الأخوة الإيمانية ، التي ترجع سريعا عن الغضب ، ولا تجد أنفة من الاعتذار ، وحتى المظلوم فإنه لا يحمل في قلبه على أخيه غلا ولا حقدا ، يختصمان فلا يتقاطعان ولا يتدابران ، ولا يغتب بعضهم بعضا ، ولا يعيب بعضهم على الآخر ويفضح أخباره ، ويهتك ستره .

يختصمان ويمكن لأحدهما أن يظفر بصاحبه لكنه لا يتمادى في الطغيان ، ولا تأخذه العزة بالإثم .

وقفت مليا أتفكر في الصديق وهو يحاول جاهدا أن يذهب غضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خصمه في ذلك الوقت ، ويصر على أنه كان أظلم !

لله هذه النفوس الأبية الطاهرة ، التي نزعم أننا نقتفي أثرها ، وأنا نسعى جاهدين للحاق بها ، ونحن يفسد كل علاقاتنا خلاف في الرأي ، فكيف لو كان تلاسنا ، أو عراكا بالأيدي ؟

كم تقطعت أواصر أشقاء وأزواج ، وعوائل لسنين عديدة فقط لسوء فهم ، أو لكلمة عابرة ، أو لخطأ غير مقصود ، بل هب أنه كان مقصودا فأين البر ، أين التسامح ، أين العفو والصفح ؟

إن سلفنا الصالح قد ضربوا لنا أروع الأمثلة في حسن العشرة ، وصفاء المشاعر .

قد تكدر دلاء الحياة نهرها الجاري لكن الكدر ما يلبث أن ينغمر في مياهه الصافية ، ويجره جريانها إلى البحر فلا يبقى له أثر . هكذا كانت علاقاتهم ، وهكذا ترجموا تعاليم دينهم .

وما أبرئ نفسي ، ولكنها محاولة لقسر موج القلوب العاتية تحاسدا وتباغضا لتهدأ ، وتسكن ، ويصبح بحر المودة صالحا لإبحار سفينة الود والتآخي ، والتمتع بجميل منظر الماء وزرقته الخلابة .

تعليقك على الخبر
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني | الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق
الاسم
البريد الإلكتروني

  • الفقير لعفو مولاه

    هذه نفوس من قام عليهم الاسلام …. اين نحن من هؤلاء نخاصم ونفجر ونجعل من انفسنا ملائكة تمشي على الارض الا ما ندر ,,,, الله المستعان … شيخنا الفاضل اجدت الوصول لهدف واضح من المقال جعله الله في ميزان حسناتك

  • سالم

    مقال في الصميم وجزاك الله خيرا يا أبا عبدالإله

  • محبك من الكويت

    اول سؤال دار في عقلي هو: هل يطبق الشيخ ذلك. فسبحان الله الجواب اتى في اخر فقرة. وما ابرئ نفسي….

  • غير معروف

    أصعب شئ الاعتزار،لكنه يصفي كدر النفوس

  • غير معروف

    ﻻفض فوك ياشيخنا الفاضل والله لكأنك تصف حالنا هذه اﻷيام نسأل الله ان يصلح الحال ويجزيك عنا خير الجزاء

إقرأ المزيد