رسّام أوروبي يدخل مكة باسم مستعار ليوثق شعائر الحج قبل 219 عامًا

الجمعة ١٧ أغسطس ٢٠١٨ الساعة ٣:٣٣ مساءً
رسّام أوروبي يدخل مكة باسم مستعار ليوثق شعائر الحج قبل 219 عامًا

لم يكن باديا ليبليخ أو علي باي العباسي، عبدًا ذليلًا ولا مسلمًا، بل كان صديقًا للباشاوات والسلاطين لكنه انتحل هذا الاسم حتى يدخل مكة ضمن عصبة المناوشين في الاندفاع النصراني لمعرفة مكة قبل عدة قرون.

وبحسب موقع الحج، يُعرف باديا بلقبه المُنتَحَل- علي باي العباسي – ولد في مدينة بيسكاي الإسبانية سنة ١١٨٠هـ، وقد سهّلت لغته الأم نطقه للعربية. تلقى علي باي تعليمًا حُرًّا قبل أن يتعلّم الفلك والطب وعلم المعادن. وفي سنة ١٢١٦هـ زار باريس ولندن، ثم عاد إلى إسبانيا بلباس إسلامي بعد سنتين. يقول أغسطس رالي صاحب كتاب «مكة في عيون رحالة نصارى»: ”إن علي باي العباسي كان عميلًا لملك إسبانيًا أو لنابليون الذي كانت أفكاره تتطلع إلي إمبراطورية في الشرق.. أما مصادره ثروته الطائلة فغير معروفة“.

فيما بعد نشأت صداقة حميمة بين باديا وسلطان المغرب، وبما كان بينهما من مودة وصداقة نصح السلطان، علي باي أن يتزوّج؛ لأن الرجال غير المتزوجين لا يلقون الاحترام. فأجاب باديا بأنه قطع عهدًا على نفسه بأن لا يتزوّج قبل زيارة مكة المكرمة. كان باديا مصرًّا على السفر لمكة على الرغم من محاولات السلطان ثنيه عن هذه الرحلة. ولكنه لما رآه مصممًا أهداه خيمة جميلة وثيرة.

في الثالث من شوال سنة ١٢٢١هـ، انضمّ باديا إلى القافلة المتوجهة إلى مكة، كان معه أربعة عشر جملًا وحصانان. وركب سفينة من السويس لكنه لم يكن محظوظًا مع البحر، فتحطمت سفينته العظيمة واضطر مع رجاله أن يركبوا قاربًا أخذوا يجدفون به الساعات قبل أن يلمسوا يابسة إحدى جزر البحر الأحمر، وتنتشلَهم إحدى السفن لساحل جدة.

وفي ١٢ من ذي القعدة سنة ١٢٢١هـ غادر علي باي على نقّالة فقد أوهنت الحمى عظامه، وقوّضت أوصاله، في اليوم التالي بعد الظهر لبسوا الإحرام، ثم سلكوا طرقًا متعرجة حتى وصلوا مكة.

 

دخل باديا من باب السلام محمولًا لشدة وهنه وضعفه، وحين بلغ ساحة المسجد، أشار إليه المرشد بأن يتوقف. وأشار بإصبعه إلى الكعبة، وهو يقول: ”انظر.. إلى بيت الله الحرام!“ أصاب باديا التأثر والخشوع. كتب يقول: ”بيت الله مغطى بثوب أسود من أعلاه إلى أسفله، ومحاط بحلقة من المصابيح، الساعة غير المألوفة وسكون الليل؛ ومرشدنا الذي كان يتحدث أمامنا وكأنه ملهَم، كوّنت هذه المشاهدات كلها صورةً مذهلةً لن تُمحى من ذاكرتي“.

سكن في مكة سكنى الأشراف والنبلاء، وكان يسبقه في كل جولاته خدمٌ يفسحون له الطريق ويوطئون الأرض لأقدامه. وقد أشركه حاكم مكة آنذاك في تنظيف الكعبة.

يُسطّر قلم باديا واحدةً من الصور المشرقة الكثيرة لشعيرة عرفات، وكان عدد الحجاج وقتها ٨٣ ألف حاج. كتب يقول: ”في عرفات فقط يتمكّن المرء من تكوين فكرة عن المشهد المهيب الذي يمثّله الحج. إذ تتقاطر حشود لا تحصى من الناس من كل الأمم والألوان من شتى أصقاع الأرض، على رغم أنف آلاف الأخطار والمشاق التي لا حصر لها ليعبدوا جميعًا إلها واحدًا. يمدُّ القوقازيُّ يده الحميمة للحبشيِّ أو الزنجي الغينيِّ. ويتآخى الهندي والفارسي مع بربر المغرب. فالجميع يعدّون أنفسهم أفراد عائلة واحدة. ليس هناك وسيط بين الإنسان وربه: الجميع متساوون أمام خالقهم“.

كان باديا أو علي باي العباسي أول أوروبي يقدّم للعالم معرفة منظمة لمكة على عكس المذكرات المتقطعة للمسافرين مثل فارتيما وبيتس. فقد حدد موقعها عن طريق مراقبات فلكية، ورسم خريطة ذات مقاييس للمسجد الحرام، وعدَّلها بوركهارت الذي أتى بعده.

خرج باديا من مكة إلى جدة، ولم تنته ملاحظاته وتأملاته عن مكة، وجدة والجزيرة العربية. أكمل رحلته الغريبة إلى بلدان كثيرة قبل أن يموت بالزّحار (الديزنتاريا) ويُدفن في البلقاء في طريق الحاج الشامي قرب عمَّان عاصمة الأردن.