قصة سقوط البشير.. دخل لينام وعندما استيقظ وجد نفسه مطلوباً للعدالة

الخميس ٤ يوليو ٢٠١٩ الساعة ٩:٥٢ مساءً
قصة سقوط البشير.. دخل لينام وعندما استيقظ وجد نفسه مطلوباً للعدالة

زار صلاح قوش رئيس جهاز الأمن والمخابرات السوداني الرئيس عمر حسن البشير في قصره بالخرطوم، مساء العاشر من أبريل، لطمأنته أن الاحتجاجات الشعبية لا تشكل خطراً على حكمه، وعلى مدى 4 أشهر ظل آلاف السودانيين يخرجون للشوارع في مظاهرات مطالبين بالتغيير وإنهاء الأزمة الاقتصادية.

وقالت مصادر، حضر أحدها ذلك اللقاء، إن قوش أبلغ الرئيس، الذي كان من أقدم الحكام في العالم العربي، بألا يقلق، وإن اعتصام المحتجين خارج مقر وزارة الدفاع القريب من القصر سيتم احتواؤه أو سحقه.

ودخل البشير فراشه لينام مرتاح البال. وعندما استيقظ بعد أربع ساعات أدرك أن قوش تخلى عنه. كان حراس القصر قد اختفوا وحل محلهم جنود من الجيش النظامي. وانتهى حكمه الذي استمر 30 عاماً.

الساعات الأخيرة في حكم البشير

وقال أحد أفراد الدائرة المُقرّبة من البشير ممن تحدثوا معه في تلك الساعات الأخيرة إن الرئيس ذهب لأداء الصلاة. وقال هذا المصدر لرويترز “كان ضباط الجيش في انتظاره عندما عاد”، لكن مصدر آخر أكد أن البشير عُزل قبل ذلك، وأن رواية الصلاة أشاعها محسوبون عليه.

وأبلغ الضباط البشير أن اللجنة الأمنية العليا المؤلفة من وزير الدفاع وقادة الجيش والمخابرات والشرطة قرّرت عزله بعد أن خلصت إلى أنه فقد السيطرة على البلاد.

وتم نقل البشير إلى سجن كوبر بالخرطوم الذي سبق أن زجّ فيه الآلاف من خصومه السياسيين خلال فترة حكمه ولا يزال فيه حتى الآن.

البشير يفقد السلطة

بسلاسة لافتة للنظر تحقق الانقلاب على رجل تغلّب على حركات تمرد ومحاولات انقلاب وبقي رئيساً رغم العقوبات الأميركية وتفادى القبض عليه بأمر من المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب إبادة جماعية وجرائم حرب في إقليم دارفور.

وأجرت “رويترز” مقابلات مع أكثر من 10 مصادر مطلعة اطلاعاً مباشراً على الأحداث التي أدت إلى الانقلاب لرسم صورة لكيفية فقدان الرئيس السوداني السابق قبضته على السلطة في نهاية الأمر.

ورسمت تلك المصادر، التي كان من بينها وزير سابق وعضو في الدائرة المقربة من البشير وأحد مدبري عزل البشير، صورة لزعيم برع في التلاعب بفئات متنافسة من حلفائه الإسلاميين والعسكريين في السودان لكن عزلته كانت تتزايد في الشرق الأوسط.

الحصول على تأييد جماعات معارضة

وفي نهاية 2018 ومع تفاقم الوضع الاقتصادي في السودان خرج المحتجون إلى الشوارع، وروت المصادر كيف أن قوش رئيس جهاز الأمن والمخابرات اتصل بمسجونين سياسيين وجماعات معارضة سعياً للحصول على تأييدها في الأسابيع التي سبقت عزل البشير.

وفي السودان كان نفوذ التيار الإسلامي، الجبهة القومية الإسلامية وهي متفرعة من تنظيم الإخوان المسلمين، أكثر رسوخاً منه في مصر ويمتد لعشرات السنين.

فقد استولى البشير على السلطة في 1989 بالتآمر مع الإسلاميين بعد فشلهم في الانتخابات، والانقلاب على الحكم الديمقراطي وأصبح البشير رئيساً لمجلس عسكري من الإسلاميين. واستولى الإسلاميون من أتباع حسن الترابي على المؤسسة العسكرية وأجهزة المخابرات والوزارات الرئيسية.

دعم قطر وإيران لنظام البشير

وكانت قطر وإيران أكثر بلدينِ ارتبطا بالبشير ودعمه منذ التسعينات وحتى عام 2014، وعندما رغب البشير في التخلص من الملاحقة الدولية حيث كان مطلوباً للمحاكمة دولياً في جرائم إبادة في دارفور حاول تغيير سياساته وعلاقاته الخارجية، كما أنه سعى للتقارب مع السعودية والإمارات والولايات المتحدة.

وفي هذا الجانب أوضح سياسي سوداني لـ”العربية.نت”، مُقرّب من البشير، أن الرئيس المخلوع سلم حينها عدداً من المطلوبين الإرهابيين وتعهّد بتقليص نشاط إيران داخل السودان وأغلق معسكراتها، ووافق على المشاركة في التحالف العربي في اليمن.

هذا وتدفقت المساعدات على السودان، وبحسب “رويترز” فإن مليارات الدولارات من الدعم الإماراتي منحت للسودان بعد محادثات أبو ظبي.

وذكرت وكالة أنباء الإمارات أن الإمارات حولت للسودان في السنة المنتهية في مارس/آذار 2018 ما قيمته 7.6 مليار دولار في صورة دعم للبنك المركزي السوداني واستثمارات خاصة واستثمارات عبر صندوق أبو ظبي للتنمية زراعية وصناعية وغيرها.

العلاقات مع السعودية والإمارات

وقالت “رويترز” إن البشير كلف مدير مكتبه طه عثمان الحسين بتولي أمر علاقات السودان مع الإمارات والسعودية.

وبحسب المصدر السوداني فإن قمر هباني كانت قد طردت من الحزب، وهي محسوبة على كوادر الجماعة الإسلامية.

وقال إنها اشتهرت بكلمة ألقتها العام الماضي عندما كانت أمينة الحزب حاولت فيها تبرير الأزمة الاقتصادية والفساد وجاء فيها، “إن الضائقة الاقتصادية التي يمرّ بها السودان ابتلاء من الله”. وقالت “لا نقول إن الظروف الاقتصادية كارثة، بل بالعكس هي ابتلاء من الله”، وقالت في مخاطبتها الملتقى التنظيمي لقطاعي الجزيرة والخرطوم، حسمنا أمر ترشيح الرئيس عمر حسن أحمد البشير باختياره مرشحاً للحزب في انتخابات 2020، والذي اخترناه ليواصل المسيرة ويستكملها”.

ووصف المصدر، اتهام مدير مكتب البشير بأنه يقف خلف المشاكل التي أدت إلى سقوط البشير بأنها مبالغة، لأن المعزول كان فعلياً هو الآمر والناهي، وأن مدير مكتبه طه عثمان الحسين مجرد موظف آخر، إلا أن الإسلاميين يريدون تنظيف سمعة البشير السيئة وتشويه سمعة خصومهم، من قوى سياسية وحكومات على خلاف مع تنظيم الإخوان والقوى الإسلامية السياسية في المنطقة وإشاعة أخبار معظمها مفبركة.

وأكّد مصدر سوداني مطلع أن التفاصيل التي نقلتها “رويترز” هي من مصادر محسوبة على الجماعة الإسلامية التي كانت تحكم مع البشير وتعيش الآن في قطر.

دول الخليج لم تكن في صف البشير

وقال المصدر السوداني إن دول الخليج لم تكن طرفاً في التغيير الداخلي، وإنها لم تكن في صف البشير.

وقال إن صحيفة “الجريدة” السودانية نشرت تفاصيل اجتماع مغلق في البرلمان في شهر فبراير الماضي، بحضور مدير جهاز الأمن والمخابرات صلاح عبد الله قوش.

وبحسب مصادر “الجريدة”، فقد ذكر قوش خلال الاجتماع، جملة عوامل داخلية وخارجية تسببت في اندلاع الاحتجاجات، تمثلت في شح الدولار وتفشي الفساد والمحسوبية، واتهم قوش دولا لها مشاكل مع الجماعات الإسلامية في إشارة إلى مصر وغيرها بدعم الاحتجاجات ضد السودان.

وفي صيف 2017، تفجرت أزمة دبلوماسية مع قطر، حيث قطعت الإمارات والسعودية العلاقات مع الدوحة لاستيائها من دعمها للجماعات المتطرفة في بلدانها، ومن بينها جماعة الإخوان المسلمين، ووضع هذا الخلاف البشير في وضع صعب، حيث إن قطر كانت الداعم الرئيسي لنظام البشير والإسلاميين هناك لنحو عقد ونصف.

وضغط حلفاء البشير من الجماعة المتشددة في السودان عليه للحفاظ على العلاقات مع قطر. وقال المسؤول الحكومي السابق إن رسالتهم كانت في غاية الوضوح خلاصتها “يجب أن نحافظ على العلاقات مع قطر”.

وفي مارس/آذار 2018 أعلن السودان وقطر خططاً لإبرام اتفاق لتطوير ميناء سواكن السوداني على البحر الأحمر باستثمارات قدرها أربعة مليارات دولار وتحويلها إلى قاعدة عسكرية لتركيا، الأمر الذي أقلق مصر والسعودية.

واختار البشير القبول بشروط قطر وعدم تقليص نفوذ الإسلاميين في حكومته من الجبهة القومية الموازية لجماعة الإخوان في السودان وشركائه في انقلاب عام 1989. وقال المسؤول الحكومي الكبير إن البشير كان يخشى استعداء شخصيات إسلامية حزبية لها نفوذ كبير.

ومن أصحاب النفوذ هؤلاء علي عثمان طه النائب السابق للرئيس، وبكري حسن صالح الذي خلفه في منصب نائب الرئيس والذي شارك في عزل البشير.

وبحلول أكتوبر /تشرين الأول 2018 كان السودان ينزلق إلى أزمة اقتصادية، إذ قل الخبز والوقود والعملة الصعبة. وفي اجتماع لحزب المؤتمر الوطني سألت هباني الرئيس عن سبب عدم تقديم الإمارات والسعودية يد المساعدة للسودان، ونقلت عنه قوله رداً على سؤالها “إخواننا يريدونني أن أتخلص منكم يا إسلاميين”.

وسألت “العربية.نت” المصدر السوداني المقرب سابقاً من البشير، فقال لم أسمع مثل هذا الحوار لكن هباني لديها مثل بقية الإسلاميين الحزبيين ثأرات مع أطراف مصرية وخليجية.

وادعت هباني أن “الإمارات والسعودية قررتا عدم دعم البشير مالياً لأنه رفض التخلص من الإسلاميين ولم يذعن لضغوط السعودية والإمارات في مواجهة قطر”.

وأضافت “لم تقبلا رفض السودان الانحياز لطرف”. وأن هذا سبب خروج الشارع الذي أدّى للانقلاب عليه.

وفي فبراير/شباط 2019 بدا كأن البشير يخطو نحو مصيره المحتوم في اجتماع مع مجلس الشورى السوداني المؤلف من كبار القيادات في البلاد.

وكانت الاحتجاجات تنتشر في البلاد على ارتفاع أسعار الخبز، وأعلن البشير انتماءه للحركة الإسلامية وافتخاره بذلك، لكن الشارع السوداني يكره نظام البشير بقدر كراهيته الإسلاميين الذين كانوا من جاء به إلى الحكم وشاركوه إياه طوال ثلاثين سنة.

قطر تتخلى عن البشير

ومع اشتداد المظاهرات سافر البشير إلى قطر في وقت لاحق من ذلك الشهر لإجراء محادثات مع أميرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. ويقول عضو الدائرة المقربة من البشير إن الأمير عرض على البشير مليار دولار لوقف المظاهرات.

لكن المصدر قال إن البشير عاد للبلاد خاوي الوفاض بعد أن كشف الأمير أنه يتعرض لضغوط من “دوائر معينة” لتغيير رأيه، ولم يحدد الأمير تلك الأطراف.

وفي اتصال مع “رويترز” اعترف مسؤول بوزارة الخارجية القطرية بدعم قطر للسودان لكنه نفى أن يكون الدعم لقمع المظاهرات وأن الدعم كان بهدف رخاء ورفاهية السودان.

رئيس المخابرات يظهر فجأة في السجن

خلف الكواليس كانت خطة عزل البشير تتبلور، فقد روى أحد قيادات المعارضة ممن كان ضمن السجناء السياسيين في سجن كوبر المسجون فيه البشير الآن في الخرطوم كيف ظهر رئيس المخابرات قوش فجأة في السجن في أوائل شهر يناير/كانون الثاني 2019 والتقى ثمانية من شخصيات المعارضة.

وطلب من السجناء تأييد خطة عامة من أجل نظام سياسي جديد في السودان. وادعى مصدر وثيق الصلة بقوش هذا الحوار.

وعاد قوش إلى السجن بعد عشرة أيام. وفي تلك المرة زار 26 زنزانة يشغلها سجناء سياسيون.

وقال القيادي المعارض الذي أطلق سراحه الآن هو والآخرون “منذ ذلك الوقت تحسنت الأحوال، وحصل السجناء على سجائر مجانية وعلى جهاز تلفزيون وتبغ للمضغ”.

وأضاف “وجدنا الأمر في غاية الغرابة أن يزور رئيس المخابرات السجناء السياسيين. لكن عندما وقع الانقلاب أدركت السبب“.

اقتراح مخرج كريم للبشير

ويقول دبلوماسي غربي كبير في الخرطوم وعضو الدائرة المقربة من البشير والمصدر وثيق الصلة بقوش، إن قوش اقترح في منتصف فبراير/شباط مخرجاً كريماً للرئيس.

وكانت تلك الخطة تقضي بأن يظل البشير في السلطة لفترة انتقالية تعقبها انتخابات.

وأعلن قوش في مؤتمر صحافي في 22 فبراير/شباط أن البشير سيتنحى عن رئاسة حزب المؤتمر الوطني ولن يسعى لإعادة انتخابه في 2020. إلا أن البشير لم يذكر شيئاً في خطاب بثه التلفزيون بعد ذلك بقليل عن الاستقالة من رئاسة الحزب وقال لأعضاء الحزب في اليوم نفسه إن قوش بالغ في الأمر.

وعندما نظم المحتجون اعتصاماً خارج وزارة الدفاع على مسافة غير بعيدة عن مقر البشير في السادس من أبريل/نيسان لم يفعل جهاز الأمن والمخابرات بقيادة قوش شيئاً لمنعهم.

وقالت هباني “عندها أدركنا أن الجيش سيستولي على السلطة”.

وتواصل قوش مع كبار المسؤولين بمن فيهم وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش وقائد الشرطة. واتفقوا على أن الوقت حان لإنهاء حكم البشير. وقال مصدر على صلة وثيقة بقوش إن كل واحد منهم كان يدرك أن “البشير انتهى”.

وأكد متحدث باسم المجلس العسكري الانتقالي الذي يحكم السودان الآن أن قوش لعب دوراً رئيسياً.

وكان الفريق أول محمد حمدان دقلو حليف البشير القديم، آخر من انضم إلى ثورة الشارع ضد البشير، ويشتهر دقلو باسم حميدتي الذي أطلقته عليه جدته.

وحُسم مصير البشير وفي الساعات الأولى من صباح 11 أبريل/نيسان تم عزله من السلطة.

وفي 21 أبريل/نيسان أعلنت الإمارات والسعودية أنهما ستقدمان مساعدات للسودان قيمتها ثلاثة مليارات دولار.

وفي الوقت نفسه تقريبا كانت جماعات من المعارضة والمتمردين تلتقي مسؤولين من الإمارات في أبو ظبي.

وكان ممن حضروا تلك المحادثات أحمد تقد المسؤول الكبير بحركة العدالة والمساواة المتمردة في دارفور.

الخرطوم ترفض محاولات قطر

وقال إن مسؤولي الإمارات كانوا يريدون سماع آرائهم في المصالحة والاستقرار. وأضاف تقد “ركزنا على عملية السلام وعلى كيفية تسوية الصراع في مناطق الحرب”.

وقوبلت محاولة من قطر لإيفاد وزير خارجيتها لإجراء محادثات في الخرطوم بالرفض.

واستقال قوش من منصبه في المجلس العسكري الانتقالي في 13 أبريل/نيسان.

وكان رئيس جهاز الأمن والمخابرات قد تعرض لانتقادات حادة من المحتجين، كما تعرض لضغوط هائلة للتنحي عن منصبه. ويكتنف الغموض مكان وجود قوش غير أن قوات أمن تنتشر حول بيته في الخرطوم.