من أروقة باريس إلى شوارع روما وقرى الصين .. فضائح الفساد وقضايا مكافحته في العالم 

الأربعاء ٨ نوفمبر ٢٠١٧ الساعة ٨:٤٠ صباحاً
من أروقة باريس إلى شوارع روما وقرى الصين .. فضائح الفساد وقضايا مكافحته في العالم 

ليست مقاربة الفساد بالأمر الهيّن، على الرغم من سطوع هذه الظاهرة، التي لا يكاد يخلو مجتمع أو نظام سياسي منها، فالفساد في حدوده الصغرى كالرشوة السائدة والرشوة الطارئة، والفساد في حدوده الكبرى وهو فساد منظم والذي يمارسه بعض كبار مسؤولي السلطات الثلاث (التشريعية – التنفيذية – القضائية)، غير أن هذه المستويات تختلف استناداً إلى طبيعة النظام الاقتصادي – الاجتماعي ذاته، كالفساد في الاقتصاد الموجه والفساد في اقتصاد السوق والفساد في الاقتصاد المشترك فضلاً عن ظاهرة الفساد الجديدة المرتبطة بعملية الانتقال من الاقتصاد المخطط إلى الاقتصاد الحر، وهذه ظاهرة لم يألفها التاريخ سابقًا.

وفي كل الأحوال ومهما تفاقم أمر الفساد وصار ظاهرة طبيعية أو كان ظاهرة طارئة، فإن هنالك حدوداً لا يستطيع المجتمع أن يتعايش معها. كما لا تستطيع الدولة الاستمرار في أداء وظائفها، ومن هنا تبرز مكافحة الفساد وإنتاج آليات الحد منه وهذا أمر تمارسه غالبية دول العالم.

وشهد عالمنا، اهتمامًا مفاجئًا بالفساد، مصحوباً بضجة إعلامية كبيرة، بعدما اقترنت العديد من التجارب التنموية بحالات من الفساد السياسي والإداري والمالي، كما حصل في فرنسا وإيطاليا. لكن التنمية المستدامة تشترط وبالضرورة مكافحة الفساد، من أجل تعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي توطيد شرعة النظام السياسي برمته، من خلال الاستجابة لطموحات المواطنين وتطلعاتهم لحياة حرة كريمة. تتيح لهم فرص المشاركة في صناعة القرارات السياسية والاقتصادية التي من شأنها تحقيق التنمية المنشودة، وتحول دون إثراء المسؤولين الحكوميين بطرق غير مشروعة تملي ضرورات محاسبتهم ومساءلتهم وفقاً للقانون.

 

أسباب الفساد ومنعكساته:

الفساد، يعني إساءة الاستخدام للمسؤولية العامة، بغية تحقيق المنافع والمكاسب لشخص ما أو لجماعة ما، ويحصل الفساد عندما يستغل الموظف العام منصبه، للحصول على المال بطرق غير مشروعة، من خلال تورطه في أفعال غير قانونية وغير أخلاقية من شأنها إلحاق الضرر بالمصلحة العامة للمجتمع والانتقاص من سيادة الدولة ومؤسساتها.

وانتشار ظاهرة الفساد، يعكس ضعف المنظومة الاقتصادية والسياسية والقانونية للدولة، وللتميز بين الممارسات الفاسدة وغير الفاسدة، فإن الفيصل في ذلك الشفافية والمحاسبة، إذ إنَّ الفساد حتى عندما يتحول إلى ظاهرة عامة، فإن مرتكبيه يمارسونه تحت جنح الظلام، ويخفونه عن عيون الناس.

عوامل الفساد:

والفساد تتم ممارسته من خلال دفع المال لبعض المسؤولين تسهيلاً لقيامهم بواجباتهم الوظيفية، وتقديم الهدايا الثمينة والرشاوى لبعض المسؤولين نظير الأفعال غير القانونية. وهناك علاقات ارتباط وسببية بين مستويات الفساد كافة التي ترتبط بعدة عوامل، من بينها:

  • العوامل السياسية
  • العوامل القانونية
  • العوامل البيروقراطية
  • العوامل المعيشية
  • العوامل الاقتصادية
  • العوامل الانتقالية
  • عوامل الإعانات والمساعدات الاقتصادية

الأيادي النظيفة في إيطاليا .. تجربة قضائية في مكافحة الفساد:

حملت التجربة الإيطالية في مكافحة الفساد، عنوان حملة “الأيادي النظيفة”، بقيادة 4 قضاة محليين من ميلانو، كان أملهم في أنَّ إرساء علاقات إنسانية جديدة، وأيضاً اجتماعية وقضائية في طابع (طلياني) عنيف ومتميز يرتديه الصراع الاجتماعي والسياسي المحتدم في بلد السباكيتي والزلازل السياسية، في المغامرة التي لم تكن سهلة، خصوصاً أن جسد الفساد جد قوي، ورجاله محنكون وماهرون في اللعب على الحبال.

واهتزت إيطاليا، على الصعيد الأخلاقي والسياسي، إثر انتفاضة القضاء الإيطالي على الأوضاع الفاسدة، التي جعلت من البلاد أشبه بالشركة الكبرى التي تتوزع فيها الأحزاب والمناصب والوظائف والمكاسب المادية وفقاً لنسب أحجامها السياسية والانتخابية، وكل حزب يرضى بقسمته من الغنيمة، فيركز اهتمامه بزبائنه ومؤيديه، ولم يعد لديه أي طموح كما هو متعارف عليه لكسب التأييد على المستوى الوطني، الأمر الذي جعل هذا الوضع من ظاهرة الفساد أن تعم على جميع المستويات في الأوساط السياسية الموالية والمعارضة على السواء.

وبعد مجيء ملك التلفزيونات الخاصة وزعيم حزب إيطاليا للأمام اليميني سيلفيو بيرلوسكوني عام 1994، أراد بعد صعوده لرئاسة الحكومة أن يغلق الملف الساخن للتحقيقات التي كان يقوم بها القضاة الأربعة، لكن قضاة ميلانو الذين باشروا بفتح ملف مخالفات شركاته، رفضوا الإجراءات الجديدة التي قامت بها حكومته، وتحول العاشر من تموز/يوليو 1994 إلى يوم تاريخي في حياة إيطاليا كاد أن يؤدي إلى انتفاضة شعبية كبيرة، إثر ظهور القضاة الأربعة على شاشات التلفزيون ليعلنوا استقالاتهم، مما اضطر حكومة بيرلوسكوني إلى سحب قرارها في الحال.

وكان يوم 22 تشرين الثاني/نوفمبر أول مواجهة حامية بين رئيس الحكومة بيرلوسكوني وحملة (الأيادي النظيفة) حين صدرت أول مذكرة تحقيق ضد رئيس الحكومة لممارسة صلاحياته بتهم تتعلق بالتهرب من دفع الضرائب، ودفع الرشاوى لرجال الضبط المالي، إلا أنَّ المحاكمات التي لا تنتهي دون أن تفضي إلى أي نتيجة ملموسة وفعلية أحدثت أجواء من الاستياء الشعبي المعلن، إثر اغتيال مكسب عملي أثمرته نضالات الجماهير، في لحظة حرجة من تاريخ تطور البلاد المعقد، المحكوم بعشرات الميول والنزعات المتناقضة، المرشحة للبروز والتصادم.

وأطاحت بعد ذلك، الشرطة الإيطالية، بـ 44 شخصًا يشتبه في أنهم جزء من شبكة من رجال الأعمال والسياسيين الفاسدين في روما، ووجهت إليهم اتهامات بالتلاعب في عقود عامة مخصصة لإدارة مراكز استقبال المهاجرين، إثر اكتشاف فساد واسع النطاق في إدارة مدينة روما، في قضية أطلق عليها اسم “عاصمة المافيا”، الأمر الذي تسبب في صدمة عنيفة للإيطاليين، إثر أنباء التحقيقات التي تجريها السلطات الايطالية بشأن تورط عدد من الساسة والمستثمرين الإيطاليين في العمل مع عصابات المافيا.

الولايات المتحدة الأميركية .. إجراءات فاعلة للقضاء على الفساد

تعد الولايات المتحدة الأميركية، من أوائل دول العالم في مكافحة الفساد والرشوة، حيث اتخذت إجراءات فعالة للقضاء على الفساد وآثاره السلبية. كما تعتبر الولايات المتحدة الأميركية من دول العالم المتقدمة في مكافحة الفساد، فوفقًا لمؤشر CPI فإن درجة الولايات المتحدة هي 7.6، مما يدل على نجاح سياستها في التصدي للفساد الإداري والحد منه، جراء تبنيها عدة مبادرات، شرعت في تنفيذها بدءًا من منتصف التسعينات، شملت:

  • Foreign Corrupt Practices Act (FCPA): وهي مبادرة تبنتها الولايات المتحدة وتطبقها في معاملاتها الاقتصادية مع باقي دول العالم. وبموجب هذه المبادرة يتم محاكمة أي شركة أمريكية تقوم بدفع رشوة لحكومة أية دولة أخرى تتعامل معها
  • في عام 1996 شاركت الولايات المتحدة في مؤتمر Inter-American Convention Against Corruption لتجريم الرشاوى الدولية التي تدفع للمسئولين الحكوميين خلال تنفيذ المعاملات التجارية الدولية.
  • في كانون الأول/ديسمبر 1997 وقعت الولايات المتحدة مع 34 دولة أخرى معاهدة مؤتمر OECD”لمكافحة الرشوة في نطاق التجارة الدولية في الهيئات الحكومية”. وقد جرم المؤتمر كل أشكال الرشاوى المدفوعة للمسئولين الحكوميين، كما ألزم المؤتمر الدول الأعضاء باتخاذ خطوات جادة نحو محاكمة أي شركة وطنية تقوم بتقديم رشاوى للمسئولين في حكومات الدول الأخرى.
  • تعمل الولايات المتحدة أيضا مع كلٍّ من: البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، لتشجيع المبادرات الهادفة لمكافحة الفساد.

وحدّدت الولايات المتحدة الأميركية ثمانية محاور لمكافحة الفساد، وهي:

  • الإصلاح الاقتصادي.
  • تحقيق الشفافية.
  • رفع كفاءة الجهاز الإداري والهيئات الحكومية.
  • الإصلاح المالي بهدف خلق هيئات مراقبة مالية لها سلطات مناسبة.
  • استقلال القضاء.
  • وضع قانون خاص للتعاملات التجارية الدولية بما يضمن حق كل طرف فيه
  • رفع مستوى وعي وثقافة الشعب.
  • تجديد ومراجعة القوانين القائمة بما يضمن وجود جهاز فعال لمراقبة ممارسات الفساد داخل حدود الدولة.

فرنسا .. من شيراك إلى ساركوزي أروقة باريس تعجُّ بالفساد:

وفي باريس، حاكم القضاء الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، بتهم متعلّقة بالفساد، وأعقبه أيضًا الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، للأسباب ذاتها، بعدما اعتمدت فرنسا 11 قانونًا، منها قوانين مرّرتها “قسرياً” دون الحصول على غالبية برلمانية، استنادًا إلى مادة دستورية تتيح للحكومة تبني مشروع القانون على مسؤوليتها، دون تصويت النواب عليه، ومنها قوانين استوفت مسارها الطبيعي قبل إقرارها، من بينها “قانون سابين” (نسبة إلى وزير المالية ميشيل سابين) لمكافحة الفساد.

ويعتبر قانون سابين، من أبرز النصوص القانونية المعتمدة خلال ولاية أولاند (2012-2015)، وينص على تدابير جديدة لمعاقبة مرتكبي الفساد المالي، إضافة إلى إنشاء وكالة لمكافحة الفساد، وتمكين كل من يقوم بالإبلاغ عن مخالفات بهذا الشأن من الحماية. وعلاوة على ذلك، فرض القانون إجراء جديدًا يقضي بضرورة مصادقة المساهمين في رأس مال الشركة على مرتّب رئيسها التنفيذي.

وجاء القانون، إثر الجدل الواسع المتفجّر، حول تحديد مرتّب المدير التنفيذي لشركة “رينولت” الفرنسية لصناعة السيارات، كارلوس غصن، بـ 7.2 مليون يورو (ما يعادل حوالي 7.5 مليون دولار)، رغم معارضة المساهمين في الشركة للقرار.

ومنح القرار، مساحة للقضاء للتحرك في إطارها، إثر سلسلة من شرائط الفضائح لفّت عُنق الجمهورية الفرنسية، وقضت على آخر مُرتكزاتها، إذ إنّه في اليمين، شيراك، وجوبيه، ودوفيللوبان، كلهم وقفوا أمام القضاء، بتُهم مالية، ووراءهم ساركوزي، الذي يعيش تهمة ابتزاز ومن ثم قتل القذافي، وفي المقابل اليساري وقف فابيوس ملوثاً بالدم الملّوث، وستروس كان باغتصاب عاملة فندق.

الصين تضمّن خطّتها الخمسية منظومة لمحاربة الفساد:

وأمامنا تجربة حية في الصين يمكننا أن نتعلم منها. فلقد أدرك الحزب الشيوعي والحكومة هناك، أن سياسات الانفتاح وإطلاق حرية القطاع الخاص والنمو المتسارع للاقتصاد والثروات قد أدوا إلى خلق فجوة هائلة في الدخل والثروة، ولتزايد التسيب والفساد، وهو ما أضعف سلطة الحزب وما رآه في ذلك من إضرار بالأمة، لذا قام الحزب والحكومة بتضمين الخطة الخمسية للدولة (للسنوات 2013 ــ 2017) منظومة لمحاربة الفساد بصرامة أكبر، ومعاقبة الضالعين فيه.

وشملت الحملة الصينية لمكافحة الفساد، إجراءات عدة، منها:

  • جولات تفتيش على المسؤولين، تقوم بها هيئات رقابة الانضباط بالحزب، لتتبع السلوكيات غير المشروعة مثل المتاجرة بالنفوذ من أجل الأموال وإساءة استغلال السلطة والرشاوى، بالإضافة لأساليب العمل الضارة كالبيروقراطية والشكلية والرفاهية والبذخ وحتى التراخي في القيام بالواجبات.
  • منع استخدام لافتات الترحيب أو السجادة الحمراء أو أكاليل الزهور أو حفلات الاستقبال لزيارات المسؤولين، ونبه لوجوب خفض الإنفاق على الجولات التفقدية لأدنى مستوى.
  • التطبيق الحازم للقواعد التي تحتم على المسؤولين الإبلاغ عن الأصول المالية والدخول الخاصة بهم وبأسرهم، وأية أنشطة استثمارية لهم.
  • إنشاء خطوط ساخنة ومواقع مضادة للفساد على الإنترنت
  • تعزيز النيابة العامة أعمالها في جمع الأدلة وحماية المبلغين والشهود.
  • قواعد تحكم مزايا المسؤولين ورفاهيتهم، وفقا لحزم متباينة على أساس مستوى المسؤول، تتضمن المنازل والسيارات والحفلات والإجازات والسكرتارية والحراسة الأمنية.

وتمت إدانة 31،555 مسؤولاً بجرائم لها صلة بالعمل خلال العام الماضي، وتلقى 23% منهم عقوبة السجن لأكثر من 5 سنوات، وكان 680 منهم يتقلدون مناصب رفيعة، فوق مستوى المحافظة. وتضمنت تلك الجرائم الاختلاس والرشوة والتقصير فى العمل وانتهاك المصالح الشخصية والحقوق الديمقراطية للمواطنين.

كما تمت أيضا معاقبة 38،135 شخصًا، بتهمة انتهاك لوائح مكافحة البيروقراطية. كذلك قامت السلطات بالتحقيق مع ومعاقبة 829 من القضاة وموظفي المحاكم، وتم تحويل 157 منهم للمحاكمة لتلقيهم مكاسب غير مشروعة، بينما فرضت عقوبات ضد الآخرين لارتكابهم لمخالفات انضباطية حزبية أو حكومية.

وامتدت الحملة إلى المجال الإعلامي، للتصدي للأخبار المختلقة ومنع الصحفيين والصحف من ابتزاز الأموال مقابل القصص الخبرية التي يكتبونها، مع الاستعانة بمنابر إلكترونية للإبلاغ عن الممارسات الخاطئة.

سنغافورة .. أنجح التجارب الدولية في العصر الحديث لمكافحة الفساد:

وتعتبر تجربة سنغافورة من أنجح التجارب الدولية في مكافحة الفساد. ويرجع هذا النجاح إلى عدة عوامل منها:

  • الرغبة السياسية في القضاء على الفساد.
  • وضع استراتيجيات وآليات جادة لمحاربة الفساد.
  • رفض المجتمع المدني للفساد كوسيلة للعيش.

ونزولاً على رغبة السلطة والمجتمع المدني في مكافحة الفساد، فقد قامت سنغافورة بإنشاء “مكتب التحقيقات في ممارسات الفساد “Corrupt Practices Investigation Bureau CPIB”، الذي يعتبر هيئة مستقلة عن الشرطة، تقوم بالتحقيق في وقائع الفساد سواء في القطاع العام أو الخاص، بإدارة تتبع رئيس الوزراء مباشرة، ويقوم بـ:

  • اتباع سياسات من شأنها مكافحة الفساد في الجهاز الإداري والقطاع الخاص.
  • التحقيق في سوء استخدام السلطة من قبل المسؤولين.
  • إرسال التقارير إلى الجهات التي يتبعها المتهمون بممارسة الفساد
  • مراجعة منظومات العمل في الهيئات الحكومية المختلفة وإعادة هندستها بما يعمل على التقليل من ممارسات الفساد.
  • تقديم مقترحات لمكافحة الفساد في الجهات المختلفة.
  • عمل لقاءات مع المسؤولين، لاسيّما المتعاملين منهم مع الجمهور للتأكيد على مبادئ الشرف والنزاهة ومكافحة وتجنب الفساد.
  • التحقيق فيما يرد إلى المكتب من شكاوى تفيد وقوع ممارسات فساد في أي جهة.
  • التحقيق في ممارسات الفساد التي قام بها مسؤولون في الحكومة.